الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.المقصد الثالث من مقاصد السورة في عرض شرائع الدين تفصيلا في ست ومائة آية: بعد إرساء الأساس تكون إقامة البنيان وبعد الاطمئنان على سلامة الخارج يجيء دور البناء والإنشاء في الداخل نعم لقد تم إصلاح العقيدة التي هي روح الدين وجوهره فليبدأ تفصيل الشريعة التي هي مظهر الدين وهيكله لقد أزيلت شبه المعاندين وأقيمت الحجة عليهم فلم يبق إلا إنارة السبيل للسالكين وإيضاح المحجة بين يديهم كانت العناية من قبل موجهة إلى بيان حقائق الإيمان فلتتوجه الآن إلى بسط شرائع الإسلام وأنت فقد رأيت كيف مهدت السورة لهذا التحول إذ وضعت برزخا يربط أطراف الحديث ويلتقي فيه سباقها وسياقها ولو أنك تلفت الآن التفاتة يسيرة إلى جنابك لرأيت أدنى هذا البرزخ إليك تلك الآية الجامعة آية البر التي انتظمت أصول الدعوة بشطريها النظري والعملي ولرأيت أدنى هذين الشطرين إليك هو هذا الشطر العملي فاعلم الآن أن هذا الشطر العملي الذي لمحناه من قبل مطويا في فهرس موجز سنراه فيما يلي مبسوطا في بيان مفصل ففي نيف ومائة آية سنرى فنا جديدا من المعاني مهمته رسم نظام العمل للمؤمنين وتفصيل الواجب والحرام والحلال لهم في شتى مناحي الحياة في شأن الفرد وفي شأن الأسرة وفي شأن الأمة بيانا مؤتنفا تارة وجوابا عن سؤال تاره أخرى متناولا في جملته عشرات من شعب الأحكام هذه الحكمة العامة في تأخير إقامة البنيان ريثما أرسيت قواعده وفي تأجيل الفروع حتى أحكمت أصولها ستبدو من ورائها حكم جزئية وأسرار دقيقة لمن أقبل على هذه الفروع ينظر إلى تلاصق لبناتها في بنيتها وتناسق حباتها في قلادتها ثم رجع ينظر في وجه التقابل بين ذلك الإجمال السابق وهذا التفصيل اللاحق فلنأخذ في استعراض الحلقات الرئيسية لهذه السلسة الجديدة لقد ختمت آية البر كما رأيت بخصلة من خصال البر ميزت في إعرابها تمييزا فكان ذلك تنويها بشأنها أي تنويه تلك هي خلة الصبر التي شعبتها الآية المذكورة إلى ثلاث شعب الصبر في البأساء والصبر في الضراء والصبر حين البأس فهل تعلم أنه الآن وقد بدئ دور التفصيل ستكون هذه الخصلة بشعبها الثلاث أول ما تعنى السورة بنشره من تلك الخصال وأنها ستنشرها نشرا مرتبا ترتيبا تصاعديا على عكس ترتيب الطي الصبر حين البأس ثم الصبر في الضراء ثم الصبر في البأساء وهل تعلم أن هذا النظام التصاعدي نفسه سيتبع في سائر الخصال الوفاء بالعهود والعقود ثم إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والبذل والتضحية في سبيل الله إليك البيان مفصلا الصبر حين البأس لا تحسبنه هنا صبرا على الجروح والقروح في الحرب فذلك معنى سلبي استسلامي ولا تحسبنه صبرا في البطش والفتك بالأعداء فذلك جهد عملي إيجابي حقا ولكن مرده إلى قوة العضل والعصب لا إلى قوة الخلق والأدب ليس الشديد بالصرعة ولكنه الذي يملك نفسه عند الغضب هكذا سيختار الله لنا من مثل الصبر أمثلها ومن موازينه أوزنها في معايير القيم ذلك هو ضبط النفس حين البأس كفا لها عن الاندفاع وراء باعثة الانتقام وردعا لها عن الإسراف في القتل ووقوفا بها عند حد التماثل والتكافؤ العادل القصاص وإذ كانت تداعي المعاني يسوقنا من الحديث عن القتلى إلى الحديث عمن هم بشرف الموت ناسب تتميم الكلام ببيان ما يجب على المحتضر من الوصية لأقاربه برا بهم الوصية الصبر في الضراء وكذلك سيختار الله لنا من أبواب الصبر في الضراء أعلاها ليس الصبر على الأمراض والآلام بإطلاق ولكنه الصبر على الظمأ والمخمصة في طاعة الله الصوم وينساق الحديث من الصوم المؤقت عن بعض الحلال إلى الصوم الدائم عن السحت والحرام الصبر على البأساء وعلى هذا النمط نفسه سترى الصبر في البأساء هنا ليس هو ذلك الصبر الاضطراري على الفقر والأزمات المالية والجوائح السماوية.ولكنه الصبر الاختياري على التضحية بالأموال إنفاقا لها في سبيل الله والمثال الذي يختاره التنزيل الحكيم هنا مثال مزدوج ينتظم الصبر في البأساء والضراء جميعا إذ يجمع بين الجهاد بالنفس والجهاد بالمال الحج إلى بيت الله ولا تنس هاهنا أن تنظر إلى المعبرة اللطيفة التي انتقل بها الحديث من الصوم إلى الحج تلك هي مسألة الأهلة التي جعلها الله مواقيت للصوم وللحج جميعا ولنقف بك هاهنا وقفة يسيرة نشير فيها إلى أن شأن عجيب من شئون النسق القرآني في هذا الموضع ذلك أنه حين بدئ بذكر الحج لم تتصل به أحكامه ولاء بل فصل بين اصمه وحكمه بست آيات في أحكام الجهاد بالنفس والمال في قتال الأعداء فاصلة يحسبها الجاهل رقعة غريبة في ثوب المعنى الجديد ولكن الذي يعرف تاريخ الإسلام وأسباب نزول القرآن يعرف ما لهذه الفاصلة من شرف الموقع وإصابة المحز لا لمجرد الاقتران الزماني بين تشريع الحج وبين غزوة الحديبية في السنة السادسة من الهجرة ولكن لأن أداء المناسك في ذلك العام كان عزما لم ينفذ وأملا لم يتحقق إذ أحصر المسلمون يؤمئذ عن البيت وهموا أن يبطئوا بأعدائهم الذين صدوهم عنه لولا أن الله نهاهم عن البدء بالعدوان وأمرهم ألا يقاتلوا في المسجد الحرام إلا من قاتلهم فيه فانصرفوا راجعين مستسلمين لأمر الله منتظرين تحقيق وعد الله فكذلك فلينصرف القارئ أو المستمع هاهنا وهو متعطش لإتمام حديث الحج على أن يعود إليه بعد فاصل كما انصرف المسلمون إذ ذاك عن مكة وهم إليها متعطشون على أن يعودوا إليها من عام قابل هكذا كانت هذه الآيات الفاصلة تذكارا خالدا لتلك الأحداث الأولى وهكذا كان القرآن الحكيم مرآة صافية نطالع فيها صور الحقائق من كل لون نقتبسها طورا من تصريح تعبيره وطورا من نهجه وأسلوبه في تعجيل البيان أو تأخيره ثم كانت هذه الآيات الفاصلة في الوقت نفسه درسا عمليا في صبر المتعلم على أستاذه لا يعجله بالسؤال عن أمر في أثناء حديثه ولكن يتلبث قليلا حتى يحدث له منه ذكرا في ساعته الموقوتة وهكذا لن يطول بنا الانتظار حتى نرى أحكام الحج والعمرة تجيء في إثر ذلك على شوق وظمأ فتشبع وتروى بالبيان الشافي الوافي وبتمام هذا البيان تتم الحلقة الأولى من الأحكام أعني فريضة الصبر في البأساء والضراء وحين البأس استجمامة وشاءت حكمة الله وتلطفه بنا في تربية نفوسنا على طاعة أمره ألا يصعد بنا إلى الحلقة الثانية من فورنا هذا ولكن بعد استرواحة فيها شيء من الموعظة العامة يثبت بها القلوب على ما مضى ويوطئ لها السبيل إلى ما بقي وكان من حسن الموقع لهذه الموعظة العامة أنها اتصلت بالموعظة الخاصة التي ختم بها حديث الحج والتي قسمت الناس من حيث آمالهم ومطامحهم إلى فريقين فريق يطلب خير الدنيا ولا يفكر في أمر الآخرة وفريق لا تنسيه دنياه مصالح أخراه فجاءت الموعظة العامة تقسم الناس من حيث ما فيهم من خلق الأثرة أو الإيثار إلى فئتين فئة لا تبالي أن تضحي في سبيل أهوائها بحياة العباد وعمران البلاد وفئة على العكس من ذلك لا تضن أن تضحي بنفسها في سبيل مرضاة الله وتخلص الآيات الحكيمة من هذا التقسيم إلى توجيه النصح للمؤمنين بأن يخلصوا نفسهم من شوائب الهوى ويستسلموا بكليتهم لأوامر الله دون تفريق بين بعضها وبعض محذرة إياهم من الذلل عنها بعد أن هدوا إليها ووقفوا عليها معزية لهم عما قد يصيبهم من البأساء والضراء في سبيل إقامتها ضاربة لهم المثل في ذلك بسنة السلف الصالح من الأمم السابقة هنا تمت الاسترواحة بالموعظة العامة وستكون الحلقة التالية في تفصيل الخصلة الثانية من الخصال العملية التي أجملت في آية البر وهي الوفاء بالعهود والعقود وستختار من بين هذه العقود أحقها بالعناية والرعاية عقدة الزواج وما يدور حول محورها من شئون الأسرة أليست الأسرة هي المجال الأول للتدريب على حسن العشرة وعلى التنزه من زذيلة الأنانية والأثرة ثم أليست الأمور متى استقامت في هذا المجتمع الصغير استقامت بالتدريج في المجتمع الكبير ثم في المجتمع الأكبر ترى كيف سيكون الانتقال إلى هذه الحلقة الثانية هل يصعد القرآن بنا توا إلى تفصيل هذه الشئون المنزلية المشتبكة المتشعبة كلا إن هذا البيان التربوي الحكيم لن يهجم بنا عليها دفعة ولكنه سيتلطف في الوصول بنا إليها على معراج من الأسئلة والأجوبة تتصل أوائلها بالأحكام الماضية الإنفاق والجهاد وتتصل أواخرها بالأحكام التالية مخالطة اليتامى وشرائط المصاهرة وموانع المباشرة وهكذا نصل في رفق ولين دون اقتضاب ولا ابتسار إلى صميم الحلقة الثانية حيث نتلقى في شأن الحياة الزوجية دستورا حكيما مؤلفا من شطرين شطره الأول يعالج شئون الأسرة في أثناء اتصالها وشطره الأخير يعالج شئونها في حال انحلالها وانفصالها فخذ هذه الحلقة الجديدة من السورة الكريمة وتعرف أسباب نزولها وانظر كيف كانت كل قضية منها فتيا في حادثة معينة منفصلة عن أخواتها ثم عد لتنظر في أسلوبها البياني جملة وحاول أن ترى عليه مسحة انفصال أو انتقال أو أن تحس فيه أثرا لصنعة لصق أو تكلف لحام واعلم منذ الآن أنك ستحاول عبثا فإن لن تجد أمامك إلا سبيكة واحدة يطرد فيها عرق واحد ويجري فيها ماء واحد على رغم أنها جمعت من معادن شتى تأمل أول كل شيء في خط سير المعاني انظر كيف استهل الحديث بإرساء الأساس وذلك بتقرير حق العشرة والمخالطة الزوجية ثم انظر كيف تلاه النهي عن إدخال اليمين في أمثال هذه الحقوق المقدسة سواء بالحلف على منع البر عن مستحقه أو على قطع ما أمر الله به أن يوصل وكيف عقبه بحكم فرع من فروع هذا المبدأ متصل بالعلاقة الزوجية وهو حكم من حلف على الامتناع عن زوجته وكيف اتصل من هنا بأحكام الطلاق وما يتبع الطلاق من حقوق وواجبات فإذا أعجبك هذا التسلسل المعنوي وهذا التدرج المنطقي في شئون كانت متفرقة ارتجلتها الحوادث ارتجالا فتعال معي لأضع يدك في هذه القطعة على حرف واحد تلمس فيه مبلغ الإحكام في التأليف بين هذه المتفرقات حتى صارت شأنا واحدا ذا نسق واحد ذلك هو موضع النقلة من فتيا الإيلاء إلى فتيا الطلاق وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم والمطلقات يتربصن ألا ترى كيف أدير الأسلوب في حكم الإيلاء على وجه معين يطل القارئ منه على أفق متلبد ينذر باحتمال الفراق فلما جاء بعده الحديث عن أحكام الفراق لم يكن غريبا بل وجد مكانه مهيأ له من قبل كأن خاتمة حكم الإيلاء كانت بمثابة عروة مفتوحة تستشرف إلى عروة أخرى تشتبك معها فلما جاءت فتيا الطلاق في إبانها كانت هي تلك العروة المنتظرة وما هو إلا أن التقت العروتان حتى اعتنقتا وكانت منهما حلقة مفرغة لا يدري أين طرفاها وهكذا أصبح الحديثان حديثا واحدا ترى من علم محمدا لو كان القرآن من عنده أنه سوف يستفتى يوما ما في تلك التفاصيل الدقيقة لأحكام الطلاق ومن علمه أنه سيجد لهذا السؤال جوابا وأن هذا الجواب سيوضع في نسق مع حكم الإيلاء وأنه ينبغي لاستقامة النسق كله أن يساق حكم الإيلاء الذي وقع الاستفتاء فيه الآن على وجه يجعل آخر شقيه هو أدناهما إلى حديث الطلاق الذي سوف يسأل عنه بعد حين لكي ينضم الشكل إلى شكله متى جاء وقت بيانه هيهات أن يحوم علم البشر حول هذا الأفق الأعلى فإنما ذلك شأن عالم الغيب الشهادة الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى وتمضي السورة في هذا النمط الجديد مفصلة آثار الطلاق وتوابعه كلها عدة ورجعة وخلعا ورضاعا واسترضاعا وخطبة وصداقا ومتعة إلى تمام هذه الحلقة الثانية وهنالك تبدأ الحلقة الثالثة حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى فلننظر كيف تمت النقلة بين هاتين الحلقتين إننا بمقدار ما رأينا من التلبث والتمكث والاستجمام والتنفس بين الحلقة الأولى والثانية سنرى على عكس ذلك بين الحلقة الثانية والثالثة نقلة شبه خاطفة بل لفتة جد مباغتة قد يحسبها الناظر اقتضابا وما هي باقتضاب إلا في حكم النظر السطحي أما من تابع معنا سير قافلة المعاني منذ بدايتها وقطع معنا ثلثي الطريق الذي رسمته آية البر من الوفاء بالعهود والصبر في البأساء والضراء وحين البأس فإنه لا ريب سوف يستشرف معنا إلى ثلثه الباقي إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وبذل المال على حبه في سبيل الله وسوف يرى أن هذه الحلقة الثالثة قد جاءت هنا في رتبتها وفي موضعها المقدر لها وفق ترتيبها في الآية الجامعة سيقول قائل نعم لقد جاءت في موضعها ورتبتها ولكن الانتقال إليها قد تم دون إعداد نفسي ولا تمهيد بياني نقول بل كان هذا الإعداد والتمهيد في الآية الكريمة التي ختمت بها الحلقة السابقة وأن تعفو أقرب للتقوى ولا تنسوا الفضل بينكم إن الله بما تعملون بصير فهذه لو تدبرت معبرة ذهبية وضعت في وقت الحاجة إليها بعد أن استطال الحديث في تفصيل الحقوق والواجبات المنزلية معبرة جيء بها لتنقلنا من ضوضاء المحاسبة والمخاصمة إلى سكون المسامحة والمكارمة فكانت معراجا وسطا صعد بنا إلى أفق أعلى تمهيدا للعروج بنا فيما يلي إلى الأفق الأعلى ألا تسمع إلأى هذه الكلمات ولا تنسوا الفضل بينكم لا تنسوا الفضل بينكم إن كل حرف في هذه الكلمات ينادي بأنها كلمات حبيب مودع كان قد أقام بيننا فترة ما ليفصل في شئوننا ثم أخذ الآن يطوي صحيفة أحكامه ليتحول بنا عنها إلى ما هو أهم منها فقال لنا وهو يطويها دعوا المشادة في هذه الشئون الجزئية الصغرى سووها فيما بينكم بقانون البر والفضل الذي هو أسمى من قانون الحق والعدل وحولوا أبصاركم معي إلى الشئون الكلية الكبرى التي هي أحق بأن يتوفر عليها العزم والقصد وأحرى أن يشتغل بها العقل والقلب نعم نعم لقد كفاكم هذا حديثا عن حقوق الزوج والولد فاستمعوا الآن إلى الحديث عن حقوق الله والوطن حافظوا على الصلاة أنفقوا في سبيل الله جاهدوا في سبيل الله وبعد فهل حديث الصلاة هنا يعتبر مقصدا أصليا مستقلا أم هو جزء من مقصد آخر لكي نحسن الجواب عن هذا السؤال يجمل بنا أن نرجع البصر كرة أخرى لننظر في جملة الخصال التي جمعت في آية البر والتي فصلت في الآيات من بعدها إلى قرب آخر السورة ولنقارن بين حظوظها من عناية الذكر الحكيم فماذا نرى نرى التنويه بفضيلتي الإنفاق والجهاد في سبيل الله لا يزال يعاد ويردد في مطالع الحديث ومقاطعه في إجماله وفي تفصيله ترديدا ينادي بأنه هو المقصود الأهم والهدف الأعظم من التشريع في هذه السورة فلو أننا في ضوء هذا الأسلوب تمثلنا تلك البيئة وأحداثها وتمثلنا القوم وهم تتلى عليهم شرائع هذه السورة وأحكامها لتمثلنا معسكرا ثابتا للجهاد المزدوج المالي والبدني ولتمثلنا على رأس هذا المعسكر قائدا يقظا حريصا لا يعزب عنه شأن من شئون جنوده خاصها وعامها ولا يفتأ يلقي عليهم أوامره وإرشاداته في مختلف تلك الشئون كلما فرغ من إفتائهم في نوازلهم العارضة الوقتية رجع بالحديث إلى مجراه العتيد في شأن مهتمهم الرئيسية ضع هذه اللوحة الجندية أمام عينيك فلن يكون عندك عجبا أن ترى الحديث في شأن الجهاد يبرز الآن على إثر تلك الشئون ذلك أن بساطه كان أبدا منشورا وأن داعيته كانت دائما قائمة فإذا عاد ذكره بعد أن زال ما حوله من الشواغل الوقتية فإنما يجيء على أصله وسجيته فلا يسأل عن علته ماذا نقول شأن الجهاد أليس الحديث سيفتتح الآن بشأن الصلاة وعدة الوفاة لا بشأن الجهاد بل نقول ونحن نعني ما نقول إن الحديث يعود الآن إلى شأن الجهاد وإن الخطاب هنا بالصلاة وغيرها يتوجه إلى المجاهدين من حيث هم مجاهدون ليحل المشاكل التي يثيرها موقف الجهاد نفسه قبل أن يوجه إليهم الأمر الصريح بالقتال فأول هذه المشاكل مشكلة الصلاة في الحرب ألا يكون الجهاد رخصة في إسقاط هذا الواجب أو في تأجيله يجيبنا الكتاب العزيز لا رخصة في ترك الصلاة ولا في تأجيلها لا في سلم ولا في حرب لا في أمن ولا في خوف حافظوا على الصلوات وإنما الرخصة عند الخوف في شيء واحد في صفات الصلاة وهيأتها فإن خفتم فرجالا أو ركبانا فإذا أمنتم فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون والصلاة كما نعلم قوة معنوية على العدو وعدة من عدد النصر لا جرم كان من الحكمة أن تزود بها أرواح المجاهدين قبل أن يؤمروا بالقتال أمرا صريحا والصلاة في الوقت نفسه طهرة للنفس من مساوئ الأخلاق تنقيها من دنس الشح والحرص على حطام الدنيا لا جرم كان من الحكمة كذلك جعلها دعامة للوصية الآنفة التي أمرتنا بالتسامح والتكارم في المعاملات هكذا كان وضع حديث الصلاة مزدوج الفائدة دواء وغذاء معا ينظر إلى الأمام وإلى الوراء جميعا بل قل إنه مثلث الفائدة لأنه في نظره إلى الخلف لا ينظر إلى الآية الآنفة وحدها بل ينظر كذلك إلى الآية الجامعة ليفصل إجمالها في هذا الجانب.والجندي في الحرب تشغله على الأقل مخافتان مخافة على نفسه وعلى المجاهدين معه من أخطار الموت أو الهزيمة ومخافة على أهله من الضياع والعيلة لو قتل لذلك انساق البيان الكريم يطرد عن قلبه كلتا المخافتين أما أهله فقد وصى الله للزوجة إذا مات زوجها بأن تمتع حولا كاملا في بيته وكذلك مطلقته سيتقرر لها حق في المتعة لا ينسى فليقر عينا من هذه الناحية وأما خوف الموت فليعلم أن الذي يطلب الموت قد توهب له الحياة ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم وأما خوف الهزيمة فإن النصر بيد الله وكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله وتلك سنة الله في المرسلين هكذا أبعدت المخاوف كلها عن قلوب المجاهدين بعد أن زودت أرواحهم بزاد التقوى وهكذا أصبحوا على استعداد نفسي كامل لتلقي الأوامر العليا فليصدر إليهم الأمر صريحا بالجهاد في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم ولتفصل لهم العبر التاريخية التي تثبت أقدامهم حين البأس والتي تزيدهم أملا في النصر والجهاد كما فلنا جهادان جهاد بالنفس وجهاد بالمال وليس الجهاد بالمال وقفا على شئون الحرب بل هو بذله في كل ما يرفه عن الأمة ويقوي شوكة الدولة ويحمي حمى الملة ولقد أخذ الجهاد بالنفس حظه من الدعوة في آية قصيرة ثم في آيات كثيرة وأخذ الجهاد بالمال بعض حظه في آية قصيرة فمن العدل أن يأخذ تمام حظه في آيات كثيرة كذلك وهكذا نرى الدعوة إليه تأخذ الآن قسطها مطبوعا بطابع الشدة تارة وطابع اللين تارة وطابع التعليم المفصل لآداب البذل تارة أخرى ثم ينساق الحديث من فضيلة التضحية والإيثار التي هي أسمى الفضائل الاجتماعية إلى رذيلة الجشع والاستئثار التي هي في الطرف المقابل أحط أنواع المعاملات البشرية أعني رذيلة الربا التي تستغل فيها حاجة الضعيف ويتقاضى فيها المحسن ثمن المعروف الذي يبذله وكان هذا الاقتران بينهما في البيان إبرازا لمدى الافتراق بين قيمتهما في حكم الضمائر الحية وبين هذين الطرفين المتباعدين يقيم القرآن ميزان القسط في الحد الأوسط جاعلا لصاحب الحق سلطانا في المطالبة برأس ماله كله لا ينتقص منه شيء لا تظلمون ولا تظلمون غير أنه يحذرنا من سوء استعمال هذا الحق بإزاء المعسرين فيأمرنا أن نتخذ فيهم إحدى الحسنيين إما الانتظار إلى الميسرة وإما التنازل لهم نهائيا عن الدين وهذه أكرم وأفضل وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون ولما كان الطابع البارز في هذا التشريع القرآني وهو طابع القناعة والسماحة قد يوحي إلى النفوس شيئا من التهاون في أمر المال روبما مال بها إلى التفريط في حفظه وتثميره جاءت آيتا الدين والرهان تدفعان عن نفوسنا هذا التوهم وتصوغان للمؤمنين دستورا هو أدق الدساتير المدنية في حفظ الحقوق وضبطها وتوثيقها بمختلف الوسائل تمهيدا لإنفاقها في أحسن الوجوه فمن لم يجد سبيلا إلى التوثيق بوثيقة ما ولم يبق أمامه إلا أن يكل عميله إلى ذمته وأمانته فليؤد الذي اؤتمن أمانته وهكذا ختم الشطر العملي من السورة بهذه القاعدة المثلى التي هي أساس كل معاملة شريفة أعني قاعدة الصدق والأمانة جعلنا الله من أهل الصدق والأمانة آمين.
|